تخطى إلى المحتوى
24 مارس 2020 / ريم الصالح

أن ينقذنا الأدب وقت الفاجعة

” تُخرِّبُ الفاجعةُ كلَّ شيءٍ، بإبقاءِ كلِّ شيءٍ على حالهِ. إنها لا تُصيبُ هذا أو ذاك، و (أنا) لا يطولُني تهديدُها؛ وإذْ تُهدِّدُني، ناجياً ومعزولاً، إنما تهدِّدُ فيَّ ما هو خارجٌ عن ذاتي، سواي الذي أغدو إزاءه آخرَ رغماً عني.”(1)

مضت عدة أيام الآن منذ أن كَسرت ابنتي ” سماء” كوع يدها، ولكن يمكنني أن أعرف -وبشكل قاطع- بأن تلك الأيام الثلاث التي مضت، لن تُنسى أبداً. هذا هو الأمر الخاص بالفاجعة؛ إنك تعلم مسبقاً بأنها ستسلخك وتعرّض صلابتك لأشد عوامل التّعرية، ستشوه روحك لتخلف ندبة ولا شك، ومع ذلك فإن ذاكرتك ستحتفظ بكل دقائق هذه المرحلة؛ بالوقت البطيء، ونظرات العيون إذ تنضح بالرعب، بالأحداث المتسارعة، ولياليك التي تداري فيها وجعك، بالألم طازجاً وطرياً، بأحاديثك العابرة خارج حدود الزمان، وبالكتب التي كنت تقرؤها لغرض النجاة.

” – أنصت لديه ندبة.
– أين؟
– ألا تسمع؟ في صوته.”
(2)

  • سماء.. إيدها.. تعال تكفى..
    خرج صوتي غائراً، مبحوحاً، سحيقاً من منطقة نائية معتمة أنادي بها زوجي كي يعاين سماء التي تتلوى من الألم. كانت عيناها أشبه ببحيرتا ماء فاضتا لوهلة من كل الجهات بأكثر أنواع الماء شفافيةً. كانت عيونها مفتوحة على اتساعها، كبيرتان، هائجتان، متحفزتان، تتنفس كما لو اعتمل داخلها إعصار مجنون. وجهها الطري الشقي بدا لوهلة كبحر يفيض على روحي بلا هوادة، فيضان لم أرَ مثله من قبل، فيضان أحكم قبضته على رقبتي.

” الفاجعة ليلةٌ يعوزُها الظلام، دون أن يضيئَها النورُ.” (3)

كيف كانت تبدو السماء يومها؟ ضبابية ثائرة بشيء من غبار ربما؟ الأكيد أنها بدت ثقيلة، وشحيحة من امتداداتها لدرجة تثير الغثاء. الشوارع فارغة في هذا الوقت بسبب انتشار وباء فيروس كورونا، يبدو العالم في لحظة خاطفة، مكاناً مهجوراً مقفراً مقتطفاً من فيلم رعب. أنا لا أحب مشاهدة أفلام الرعب، ولكنني أعيش إحداها الآن. وهذا لوحده مدعاة للأسف والبكاء.
أحسست برغبة عارمة لأن أبصق نفسي!

أنهينا الأشعة –بعد أن تعلمت شيئا من علاجات الشعر من موظفة الاستقبال!- وتوجهنا لانتظار الطبيب في مشاوراته مع طبيبٍ آخر فيما يخص حالة سماء الصحية.
كنت أذرع غرفة الانتظار بينما الطفلة في حضن أبيها، أذرعها كما لو كنت أسعى سعي هاجر. لم أكن أمشي، لم أكن قلقة، لقد كنت أتدفق هلعاً. أرتدي كمام الوقاية من الفايروس، بينما في نفسي؛ أردت أن أخفي خيبتي، رعبي، خوفي، وصياح رأسي الذي لا يتوقف؛ من عيني سماء الخائرتين.

” الفاجعةُ نهمةٌ. “(4)

  • سيكون لزاماً إجراء عملية جراحية مستعجلة هذا المساء للطفلة. سنفتح شقاً بطول 7 انش، نعيد العظام لوضعها الصحيح، ثم نضع أسياخاً من الحديد.

” وأقول بأني حزين بشكل آخر، حزنا لا يشبه حزني حين يكون العالم أرجوانياً أو حين يتعثر شخص ما في الشارع. ويقول الآخرون لا بأس. وأعرف أني لست حزيناً.. أنا أشبه شيئاً آخر، أكبر من كل حزن. أنا صدئ، وأعبر نحو الجنون، وأشعر برغبة في أن أكسر ساقي.”(5)

الوقت بطيء، وأنا أتماسك، تتمدد على سطحي الشروخ والكسور وأتماسك، لا يجب أن أبكي، أو أقلق، أحتاج لأن أبتسم وأضحك أمام سماء الملتحفة برداء غرفة العمليات الأخضر القبيح. نشغل أغانيها المفضلة ونغني سويا كما لو لم يحدث شيء. تتشنج قدماي كلما فتح باب ممر العمليات ظنّاً مني بأنه قد حان دور سماء.

ما الذي حدث لذكريات امتحانات نهاية العام للثانوية العامة! اللعنة!

بسبب فيروس كورونا، وتطبيقا للاجراءات الاحترازية، تم طردي خارج جناح العمليات لغرفة الانتظار الخارجية.
الوقت بطيء، بطيء، بطيء
رأسي ينفجر على نفسه
أنا أنفجر على نفسي
ما الذي يحصل، ومتى سينتهي هذا كله
كنت أريد لأحدهم أن يوقظني من النوم.

“ويشبه الجنون، أكثر ما يشبه، صداع الرأس، لكنه ينتشر في أعضائك كلها. فحين أكون مجنونا، أشعر بالصداع في قلبي وفي مفاصلي وتحت أجفاني. وحين أكون مجنونا، أبدأ بالارتجاف من شدته، وأبدأ بالنشيج ويشتد الألم في خلايا الدم.. وأرمي برأسي على الحائط فيتهشم، وألقي بجسدي أمام كل عربة وأجمع أشلاءه..”(6)

على مرتبة المستشفى الأرضية -التي يفترض أنها أعدّت لنومي- أجلس دون حراك أستمع للتنفّس المنتظم لابنتي النائمة بعد هذا اليوم العصيب. هذا الهدوء فجّ للغاية، ورغم ذلك فإنني أُنصت تماماً لصوت بكائي الصامت، يخدش هذا الليل. أتسلّل مني هذه الليلة فقط، أستمع لكل حطامي الداخلي، كسوري وزلازلي، أنهار ملء الصراخ كله ولا أصرخ، لا أقدر أن أصرخ، لا أقدر أن أصيح، علمت هذه الليلة بأن الصراخ والصياح امتياز لا أحقيّة لي به كأم يجب أن تظل صلبة، قوية، ومتماسكة. متماسكة جداً. حتى كدت أن أجن.
لم أتصل بأمي كثيرا، أخبرتها بأنني سأصيح لو أنا حادثتها، سيخر هذا الجدار الهش عن آخره.

أردت أمي
أردت أن أصيح في حضن أمي
أردت أن أذوي وأذوب داخل أمي
أن أفقد صوتي، وتجف دموعي
أردت أن أشفى..

لكنني كنت الكأس الزجاجية المليئة بالكسور هنا، والتي لم تخر بعد، القشرة العظيمة والقوقعة الهائلة التي تحوي كل هذا الحطام. لست الجنين الدافئ المتكور في الرحم بعد اليوم. ورأسي يكاد ينفجر.

“حين أكون مجنوناً جداً وأقتل نفسي من الداخل، أبكي عليَّ. فيتسلل من عينيَّ دمع، ويراه الآخرون، ويسألونني: ما الذي تفعله؟ فأجيب أحياناً: أدفن نفسي.”(7)

أنقذني الأدب، طوال فترة بقائي القسريّة في ذاك المكان كنت أحتمي بالأدب. أطعم سماء، وألبي حاجاتها، نغني سوياً ونقص القصص الخيالية –والتي لا أتذكر معظمها الآن-، نخرج للمشي قليلا في ممر جناح الأطفال، نعود عندما تقرر ذلك، وما أن تغفو حتى أحتمي من وحدتي بالأدب.

“الفاجعة منعزلةٌ، بل أكثر الأشياء انعزالاً.”(8)

قدرة الأدب الحقيقية لا تنحصر في الحالة المعرفية والعمق الإنساني الذي نحسّه ونرى آثاره كلما قرأنا، لكنها تتخطّى ذلك لأن تكون جزءاً حيًّا وحقيقياً في جعل الحياة أمراً ممكناً وقابلاً للعيش.

كنت ألتهم الشعر في وحدتي كما لو كنت أبحث عن سلوان من نوع آخر، عن مؤنس أو رفيق يخفف وطأة الكائن المهشم فيّ، يجلي هذا التعب الثقيل الذي يصلب قلبي من الداخل. أقرأ شيئاً مما قرأته مسبقاً ومما لم أقرأه. أحس بنفسي في مكانٍ ما من كل قصيدة. أهرب من مرتبة المستشفى لكنبة رولا الحسين، أو لفصول علي عكور الأربعة، أو حتى لذئاب آلاء حسانين. وكم كنت أبكي كلما قرأت “وتلك الأم التي أرادت أن تخرج من نفسها كانت أمي..” لإبراهيم الحسين.

أردت أن أخرج من نفسي
أن أدخل قصيدةً ما
أن أكون قصيدةً ما
أن أختفي
وأتبدد
أجل، ذاك أفضل.

“تحضر وتغيب بذاكرة مفخخة؛
يبدو أن ذلك ليس ببعيد،
يبدو أن ذلك هو الأقرب.”
(9)

ملاحظة: بعد مرور ما يقرب الأسبوع، سماء بخير وصحة جيدة. شكراً لكل من سأل.


(1)  كتاب الفاجعة – موريس بلانشو
(2)  كانتصار صغير للبرق والرعشة – علي عكور
(3)  المصدر الأول
(4) المصدر الأول
(5)  العهد الجديد كلياً – آلاء حسانين
(6)  المصدر السابق
(7) المصدرالسابق
(8)  المصدر الأول
(9)  يسقط الآباء حجرا حجرا – إبراهيم الحسين

17 فيفري 2020 / ريم الصالح

أتمنى شفائي منك


أتمنى شفائي منك في هذه الأيام. علي أن أكف عن تدخينك، عن شربك، علي أن أكف عن التفكير بك. إنه لأمر ممكن.

سأتبع التعليمات الأخلاقية أولاً بأول.
أصف لنفسي الوقت، الغياب، والوحدة.
ما رأيك أن أحبك أسبوعاً واحداً لا أكثر؟ أسبوع واحد ليس بالكثير، ولا بالقليل، هو وقت كافٍ تماماً. يمكن لكل كلمات الحب التي قيلت على وجه الأرض أن تتجمع في أسبوع واحد لتشعل ناراً. سأدفئك بنار الحب المحروق تلك.
والصمت أيضاً سأصفه لي. إذ أنّ أفضل كلمات الحب بين أي اثنين هي تلك التي لا تقال.
علي أيضاً أن أحرق تلك اللغة الملتوية والانقلابية التي يستخدمها المحبون. ( تعرفين كيف أقول لك إني أحبك عندما أقول: ” كم الجو حار!”، ” ناوليني الماء!”، ” أتعرفين قيادة السيارات؟”، ” لقد حل الليل!”… بين أناس آخرين، من جهةٍ أصدقاءُ لك وآخرون لي، قلت لك:
لأسبوع واحد فقط ليجتمع كل حب التاريخ. لأعطيك إياه، ولتفعلي به ما شئت؛ خبئيه، ربّتي عليه، أو ارمه في القمامة. لا أهمية له، ذلك أمر أكيد.

فقط أريد أسبوعاً واحداً لأفهم الأشياء. لأن هذا شديد الشبه تماماً بشخص خارج من المصح؛ داخل إلى معبد.

أوكتافيو باث
ترجمة: قتيبة الرفاعي

10 أكتوبر 2019 / ريم الصالح

اليوم العالمي للصحة النفسية

#اليوم_العالمي_للصحة_النفسية

اليوم.

العالمي.

للصحة.

النفسية.

ههههههههههههههههه

اللعنة عليكم جميعا !

———-
: أحس بأن هذه ليست طفلتي… شيء في داخلي يُتعبني. ما الذي فعلته بنفسي! تباً.
———-
: أتعلمين بأنني أريد سبباً -عدا هذه الطفلة- يجعلني أتعلّق بهذه الحياة أكثر.
سبباً واحداً خاصّاً بي. بي أنا!
———-
* أُقرّب أذني من أنف سماء الرضيعة لأتأكد إن كانت ما تزال تتنفس *
———-
: اللعنة على كل هذه الأدوية – يا يمه- أريد أن أُرضع طفلي وحسب!
———-
: أنا بخير.
———-
: لم أعد أقدر على احتمال شيء.
———-
: أنا بخير.
———-
: أنا بخير
———-

لم أتصالح يوما مع إنسانيتي بالشكل المطلوب –الشكل المطلوب؟-

مرةً أخرى، لم أتصالح يوماً مع هذا العالم كما يجب –العالم!-

محاولة أخيرة. لم أتصالح يوماً معي.
معطوبة، تنخرُ بي الحالة الخالصة من التّعب الذي يكتفي بنفسه
تعب بلا معنى، بلا سبب
تعب أسود ثخين كالسخام يترسّب على قفاي، ينسلّ من خاصرتي
ينبثق من رأسي إلى الأشياء
يتوحش في الليل، ويختبئ داخل السرير في النهار
تعب صامت، يصيح في رأسي بنبرةِ هلع واحدة________

أعتقد بأن هذا هو ما تسمونه: الاكتئاب.

عندما كنت حبلى بطفلتي سماء في الشهر التاسع، توجهت إلى مستوصف المنطقة لأدخل على الطبيبة كي تكتب لي عذرًا طبيا للغياب. كان الأمر إجراءً روتينياً عادياً. رقم انتظار من الشباك، مقاعد حديدية باردة للانتظار، جدران بيضاء بلا أي صوت. يظهر رقمي على الشاشة فأقوم بتثاقل للتوجه إلى العيادة. أنظر في وجه الطبيبة -بعد أن جلستُ- وتنظر هي نحوي. عينان سوداوان أشبه بكرات الكريستال، ونظرات واضحة تلحق بي، تجري مسرعةً عبر يدي وفوق ذراعي قافزةً إلى رأسي وهي تسألني

: كيف هي حالكِ ؟

كيف. هي. حالي.

أظن بأنني سقطت من على هوّة عظيمة تلك اللحظة الضائعة في سنة 2014
لأنني لم أتوقف عن البكاء بعدها.

img-20150404-wa0005.jpg

لحظة ولدتُ سماء ابنتي، لم تصرخ كأي طفل. لقد كانت كالخرقة المُعلقة على يد الطبيبة أمام ناظريّ

فكّرت: * كائن غريب.*

———-

المعاناة ألم بعيد وقريب في الآن ذاته. أن تعاني أشبه بأن تَمدّ وجعك وتفردهُ على كامل وعيك، وتغور به إلى مناطق الإحساس في داخلك.
المعاناة تخلق في داخلك حاجةً كاوية للاستيلاء على كل رغبة تافهة وضئيلة بالسعادة. وإذا اقترنت المعاناة بالاكتئاب، فإن الهدف سيكون رغبتك المحضة والوحيدة بالعيش! العيش فحسب.

تجاوُز الاكتئاب أشبه بأن تكذب على نفسك. أنت الكائن الذي تُمزّق نفسك بالحقيقة، تُضطرّ –وياللعار- لأن تكذب على نفسك، وتصدّق كذباتك هذه كلها. وحوشك تعوي ضحكاً آخر رأسك، وأنت تواصل ترديد الكذبات في محاولة عبثية لتصديقها. تناضل، كيدٍ في قِدر ماء يغلي.

20131216_215252

———-

: كل سبل الراحة متوفرة لديكِ!
بيت، زوج، طفلة، وظيفة، أهل. ما الذي تطلبينه أكثر بحق السماء!

أفكر * أنا أريد أن أختفي من هذا كله.*

: أنا آسفة. الأمر ليس بيدي. لست أريد شيئاً.
———-

عندما حبلت بطفلي الثاني –فارس- تم تشخيصي بالاكتئاب الاكلينيكي وكان علي أن أبدأ العلاج لكي أنجو عبر فترة الحمل. لم يكن الأمر مستغرباً عندما قالت لي الطبيبة بأنني مررت باكتئاب ما بعد الولادة بابنتي سماء، وأنني أمر به ثانية منذ الحمل بفارس.

أذكر أنني كنت وقتها كائناً بارداً تماماً، مرهق وأحس بأنني بدأت أتفكك من الداخل. لم أكن أدري بأنني كنت سأتفكك لدرجة مرعبة يوماً بعد يوم!

الاكتئاب الذي يقترن بالأطفال مختلف بعض الشيء عن الاكتئاب في صورته الفردانية، هذا ما لاحظته على نفسي أنا. إنني أمتلئ بالرعب، البكاء حالة شبه دائمة. أفتح عيني صباحا في الفراش فأحس بالاختناق بسبب فكرة واحدة وهي: لماذا استيقظت؟ لماذا لم أمُت؟ أنظر في وجه سماء النائمة بهدوء مخيف وأبكي، الليل يجيء أخيرا فأقلب الوسادة التي أصبحت رطبة وغيرصالحة للنوم. لقد كنت أتسرب عبري، عبر مساماتي، وكان هذا لوحده مدعاة للعزاء.
عندما ولدت فارس، قضيت ليالي المستشفى أحادث الممرضة الهندية وأبكي. أقول “أبكي” لأنني لا أذكر أمراً جللاً أكثر من شعوري بخفقان قلبي في ذلك الوقت مع كل شهقة بكاء. هذه المرّة كنت محطمة حتى أقصاي ولا أقدر على لمّ أجزائي.

قررت في أول يوم نفاس أن أتوقف عن أخذ أدوية الاكتئاب كي أستطيع إرضاع طفلي، لكن رأسي خذلني حقا
: ستأخذينها الآن ولتذهب الرضاعة للجحيم، لن تموتي الآن!
كانت نظرات أمي تطفح بالخوف يومها، وهي تراقبني أهوي في حزني الفارغ هذا، أرقب الصبي وأحس بأنني حبة إجاصٍ فاسدة
فاسدة تماماً.
———-

20160427_131633.jpg

: Mama, Why Are you sitting alone? Come Sit with me in the Livingroom

( الترجمة : ماما، لماذا تجلسين لوحدك؟ تعالي واجلسي معي في غرفة المعيشة –الصالة- )

سماء، الطفلة التي خُلقت لتكون أشياء كثيرة
والتي خلقت أيضاً لتنقذني.
كل مرةٍ أقف مشدوهة أمام قطعة السحر هذه، في محاولة حقيقية لفهم الأسباب التي استحققت بموجبها مثل هذه المخلوقة!
عندما أقرأ وتناديني من خلف الباب دون أن أجيبها، فإنها تطلب مني أن أتوقف عن القراءة!
إنها تعلم مسبقاً ما الذي أفعله في الداخل!
ذلك التواشج الشعوري الذي يفيض بيننا كانت له آثار عظيمة في إنقاذي.
إنها لا تتركني لبراثن وحدتي.
إنها لا تتوقف عن طرق الباب
كما لو كانت تتوخى حذر من لم يطرقوا الخزان مسبقاً..

أقسم أنها طرقته للتو، وسألتني ماذا أفعل ههههههههه
إنني أكتب مقالاً عن اليوم العالمي للصحة النفسية !
أقول فيه اللعنة على كل هذا، وأضحك هههههههه

snapchat-1100300527.jpg

10 أفريل 2019 / ريم الصالح

مواسِم تطاير الهندباء البرية

رماديةٌ
يد الاكتئاب.
البياض/ حالة خلاصك الأبدية
العتمة/ موتك النهائي
وما بينهما
أنت ترزح في اكتئابك
أنت تهبط في المدد الرمادي.

وتبحثُ عن معنىً
تتجاوز بشاعة العالم، الدم، الصّياح
عويل الأطفال، وجثث الأمهات
وتبحث -أنانيًا- عن مسوّغ للبقاء.

النار في رأسك
رقبتك ضجِرة
كتفاك محطمان.
تقتلك الأحداث
تسلب مقاطع الفيديو طاقتك الضعيفة
تتمزق، تصيح، تبكي، تعوي، تتبلل، تتهدل، وتصرخ
تصرخ، تصرخ، تصرخ


جحيمك المُستعر
نارك التي تحرقك
مؤشرك الوحيد
أنك لا زلت على قيد الحياة

_________

“إن لم تكتبي القصيدة ستموتين!
وإن كتبتِ فستقتلك قصيدتك الأخيرة.
حسنًا، يجب أن تكتبي وحسب.”

*هذه ليست قصيدة.
لذا وجب التنويه!

3 فيفري 2017 / ريم الصالح

حياة الدمى

كانت الدمية المغبرة تكره موقعها من الكرسي الوحيد في زاوية غرفة العليّة. تكره رائحة الوقت على جلدها، طعم النسيان الحامض في هواء الغرفة. لم تكن قادرةً على الغفو ولا النوم ولا حتى الموت! هذه الهيئة الجالسة لحمت ظهرها المقوّس بالكرسي؛ كما لو كان سيخاً حديدياً. تتمنى الدمية لو استطاعت السقوط أخيراً! هذا الطفو الهلامي في الوسط، في البقعة البين بين مريع وقاتم، والنهاية لا تبدو قريبة. ياللبؤس.

16 أكتوبر 2016 / ريم الصالح

(أن تتفكّك)

Artwork: Moises Mahiques
كلما استيقظ صباحاً أحس بحاجةٍ تحرقه لأن يبحث عن نفسه، كأنه لم ينم مع بعضه البارحة. يتثاقل كل خطوة دون أن يعي أينه. لا يدري عمّ يبحث تحديداً، اسم، ميلاد، نظرة، شكل أصم عبر المرآة أو حتى ذاكرة. تذكّر هدوء رأسه -يبدو ذلك غريباً- فأحس بالراحة والجوع معاً. كلهم نيام؛ وحوشه الخاصة. عندما سيأكل طعام غداءه، ستستيقظ وحوشه عند رقبته. أصبح معتاداً على أن يعلك نفسه كلقمةٍ عنيدة، يبتلعها، وينسى ذلك.

18 ماي 2016 / ريم الصالح

فجوة للامتلاء

image

Art : Unknown.

جالساً مع نفسه، كان يُعدّد حيواته المتناثرة في الداخل. كان يرى نفسه الثلاثيني مطأطأ الرأس لمديرٍ قذر يلتهم الوقت بالطعام ويلقي بالأوامر في وجهه. أوجعته نفسه حينها، لم يدر لِم أحس بالذل في هذه اللحظة، بالترهل والانزواء. صغُرت نفسه، صغرت إلى أن عاد طفلاً يجري على الطين ويتمسح بأسوار المنازل كهِر ضائع. كان يرى نفسه مُشعاً وغبياً في نفس الوقت. غبياً أو ساذجاً لا فرق، المهم أنه ضحك باقتضاب خجلاً من حياته الطفلة هذه. خجِل حدّ الكهولة، حدّ الثقل. أحس بنفسه يكبر أعواماً متتابعة، ببطءٍ يتهدّل على ظهره. رأى نفسه عجوزاً وحيداً يجلس عند النافذة الرمادية بانتظار الموت. أعوامه طويلة مديدة، كما لو كان بعمر الأرض. بعمر الجواميس والفيلة وغابات السافانا، بعمر الحيتان والمحار والطحالب والبحار، بعمر السحالي والديدان وأحافير الأزمنة القديمة. لا يدري كيف رأى نفسه أحفورة بكتيريا تافهة! التصقت طفيليته سهواً بجدار صخرةٍ عتيقة ونامت لسنين. ما الذي كان يفكر فيه عندما قرر أن يبدأ المرحلة/اللعنة الأولى من العيش هذا؟ أحس بسوائل معدته تتخبط في جوفه فعاد. لا يدري حتى الآن أي حياة هي الحقيقية. متأكد هو بأن كآبته المتفشيّة هذه بسبب المراهق داخله، والذي كان يصرخ في الوسادة ليلاً. “المراهق” الذي لم يزل يصرخ. “المراهق” الذي كان يقطع أوردة يده بالشفرات.

22 أفريل 2016 / ريم الصالح

تذكّر

image

Art : Danny O’Connor

عندما ألقى نفسه بتهالكٍ على السرير، فتحت ذاكرته العجوز عينيها. أعادت للسقف الأبيض الناصع صور المروحة البطيئة التي كان يراقبها قبل أن يخلد للنوم. أعادت ملمس لحاف القطن الشامي الذي جلبته له جدته، إنه لا يشبه ثقل هذا الغطاء المصنوع من أنسجة معدلة جينياً. يتقلّبُ على سريره الفارغ ويتذكر ملمس ظهر حبيبته عندما تكون نائمة، بارد ورطب كسطح نهرٍ هادئ. اكتست الجدران بصباغ يتقشّر، ومفاتيح الإنارة الدوارة أصبحت رمادية تُفتح بالكبس؛ كالتي كانت بحجرة أمه. أراد أن ينام قبل أن يتذكر والده. فوجد وسادته تتمزق بالموت.

20 أفريل 2016 / ريم الصالح

في رسالة وداع مُقترحة

image

“…أيتها الأم الطيبة، كان كل شيءٍ بخير. كنت كائناً يكتفي بالحب والعائلة ولا يشعر بالخواء المحض هذا، حتى اقتنصتني الكآبة. أُحس بأنني أتفحّم من الداخل. الخروق المظلمة تتسع فيَّ، وأنا أفقِدني، ولا أملكُ شيئاً حيال ذلك.
أيتها الأم البيضاء، العالم لا يحتاج لأن يبذل قصارى جهده لتفتيتي. الحزن يُصيبني بالشلل كموجة خانها الجَزر، ولا بأس. كل الدقائق والتفاصيل اللعينة تتحوّل بفعل الرأس المعطوبة إلى مسبباتٍ للاكتئاب. العالم رمادي، والناس في هرولةٍ دائمة. إنهم لا يتوقفون! الأطفال المساكين خطايا خطايا، والأمهات أوجاع مؤجلة.
أيتها الأم، ما كان علينا أن نكون هنا. لقد حدث خطأ كونيٌّ فادح ورُمينا على هذه الأرض. إنني أعترف بأن عقلي الخائب أكثر هشاشة من أن يواصل العيش…”

9 أفريل 2016 / ريم الصالح

مخدرات صحية

image
Water Color By : Agnes Cecile

يقود السيارة بقلبٍ نائم. رأسه خائرة تماماً. حاول عبثاً أن يوقظ ذاكرته القصيرة لترصف أحداث اليوم، ولا شيء. رأسه رماد رمادي لا يتدرج. قلبه لا يشتاق لها، لا يشتاق أحداً. يتفقد الذين أحبهم في داخله ولا شيء إلا الظلمة. لم يحس بالخوف، ولا حتى بالهلع. كان ابتلاع دواء الحساسية ودواء المفاصل معاً فكرةً…؟ أوه لا يدري ماذا يقول!  أصيب بالشلل من الحياة؟ ابتلعه الفراغ المحض الهائل؟ لا يحس بشيء، تلك أعجوبة أثارت ابتسامته. “هربت من الكآبة! ياللحظ!”. :يالك من مخلوق فضائي! ضحك فجأةً كخنزير على تعقيب رأسه الخدرة. :قُذفت كالملعون على أرضٍ لا تنتمي لها، جلدك يتحسس من الهواء والغبار، تنقلب -بنوبةٍ واحدة- ديكاً منتوف الريش، مفاصلك ركيكة هشّة وعظامك تطقطق منذ طفولتك!
مالذي تصنعه حتى الآن في مكان لا تنتمي له؟!